إذا كانت الكلمة الحرة إنما تعبر في حقيقتها عن موقف ما من الحياة. فكم من الكلمات نحتاج, لندخل إلى تفاصيل تلك الحياة؟
حين تفرست في وجوههم الذابلة, الملونة بسحنة السنابل السمراء ( جواد, وسؤدد, وسومر, وعثمان, وسوسن, وفاطمة , وماجدة, وأم علي, و...) سألت نفسي السؤال ذاته, لم أجد جوابا ليشفيني من حر دموعي, وحسرة قلبي, وانكسار روحي.. لذا جاهدتُني لأنقذ نفسي من خجل ينتابني حين أكون أمامهم, لتكشر الحرب, وأمام العالم عن عورتها الغليظة, فتعريها دمعة يتيم, أو صرخة أرملة.. وسينتابك الخجل نفسه حين تكون أمام الصورة, الشاهد, والحقيقة, لأنك ستكون في الموقع المناسب: أمام مئات الآلاف من الضحايا, من الثكلى, والأرامل, والأيتام العراقيين, والذين حصدتهم نار الحرب, فحولت أحلامهم البريئة إلى جحيم يهربون منه إليه, دون أن يتدثروا ببصيص النور, حيث لا بصيص هناك, سوى نار الغارات الجوية, والطلقات النارية, وصوت المدافع الصديقة!!
ولأن ثُلَّةً أرادت أن تُخضع تلك الحياة البائسة, لرسالة الإنسانية, رسالة تحمل في طياتها معنى الانتصار, والوقوف من جديد ولو على ساق واحدة! رسالة تحمل في مضمونها الخيار الصحيح, والفعال, خيار إيقاد شمعة بدلا من لعن الظلام, كان القضاء ليمثله القدر في كوادر وطنية مغتربة, قررت أن تفعل شيئا فحسب, متسلحين بسلاح التصميم, والمثابرة, والعمل التطوعي الخالص, واضعين نصب أعينهم أطفال العراق , حيث تظلهم سماء الله الواحدة, بلونها الذي لا تغيره الأديان, ولا الطوائف, ولا الأعراق, متحملين كل المصاعب, و المعوقات, والتي ستواجههم حتما, فكانوا كنبعة ريحان تشق طريقها في نهر ملأته الجثث!
نبعة انتفخت, وأينعت اخضرار, وبهجة , رافعة رايتها على الضفة الأخرى قبيل وصولها إياها!!
من قلب ( ياسمين) بدأت القصة, قلب أوجعه المرض, تفاقم شيئا فشيئا, ليصبح مشكلة صحية يصعب حلها في بلد أكل من كتفه الحصار, ليرميه عظما لحرب جديدة لا مبرر لها, حاول السيد ( أحمد حميد) أن يعالج ابنة أخيه ياسمين في فيينا, بدأ في ترتيب إجراءات, وأوراق السفر, لكنها الحرب داهمته دون أن تنال شيئا من تصميمه على فتح ذراعيه!
لأنه حين يوجه العبد قلبه لله, سيجد من يسخره الله له, ويحقق له أمنيته من مصباح مفرج الكرب, هاهو وفد نمساوي مكون من أطباء وصحفيين متوجهين إلى بغداد, مما سنح فرصة ذهبية للأستاذ حميد, بفكرة بسيطة, بمجموعة قليلة, بإرادة, وتصميم, بهذا كله استطاع أن ينقذ قلب ياسمين, سافر معهم, وهناك عرفهم على مستشفيات بغداد المتهالكة, والتي كانت في وضعا مأساويا لا يضاهى, طار بها إلى هناك, حيث تلقت العلاج المجاني, والرعاية الإنسانية, وحين عادت لذويها دغدغت عقله فكرة إنشاء مؤسسة هيئة إغاثة العراق, كانت فكرة فردية ثم ما لبثت أن تبلورت لتكون حقيقة على أرض الواقع, خاطب بعض المهتمين, وبعض الجهات المعنية وبفضل الله, أنشأت الهيئة, وأعلن عنها رسميا في تاريخ17-10-2003 بدأت مفتوحة للجميع, لتجد نفسها أمام متطوعين جدد, فمن خلالها تمكن الكثير من أبناء الجالية العربية والإسلامية وحتى النمساويين أنفسهم من تقديم يد المساعدة لأيتام العراق, وللعوائل المهجرة, ولمعوزين منعهم التعفف عن السؤال, ولم يمنع رجال الله من المواصلة في عملهم الخيري تحت جنح البارود, حيث سقط منهم الشهيد تلو الشهيد, حين كانوا يجوبون طرق الموت الملثمة بالنخيل العاقرة ربما!! وحيث يكون الهدف ساميا, وواضحا, تكون المواثيق شريفة, كما تعلنها المؤسسة في ميثاقها: نمد أيدينا للمحتاجين والمستضعفين والمرضى والمهجرين دون أي نوع من التمييز أو الاعتبار لأصولهم العرقية أو لقناعاتهم الدينية والسياسية"
وبهذا الميثاق, وبتلك الوقفة الإنسانية النمساوية الرائعة, والمشرفة حقا, كتبت الهيئة قصة نجاحها, والتي أطلقت زغاريد انطلاقها سيارات الإسعاف, المعبأة بطرود الأدوية, عابرة من فيينا إلى بغداد عبر أوروبا وتركية وسورية, لتصل في مراسيم هي الأولى من نوعها, وهي تسليم النصل إلى الروح الذاهبة في تغميض عينيها لولا رحمة الله, والإنسان..
قصة كتبتها الدمعة, والخيمة, وشهادة الوفاة..
قصة حملت بين ثنيا الوجع: سلال العيد, وليالي رمضان, المعبأة بحلوى كان يجلبها لهم يوما ما أب رحيم, أو أم رءوم!
فيا ترى مَنْ يكون حامل السلة هذه المرة؟